لمخاطبة الجماهير أهمية قصوى في تثبيت أركان أي حكم، واكتساب شرعية شعبية لأي رئيس. لهذا كانت الخطابات التي يلقيها الرؤساء والقادة محل عنايتهم، واختاروا لكتابتها أفضل من يقتنعون به ككاتب. يمكن أن نرى تلك الأهمية متجسدة في فيلم «خطاب الملك» The King's Speech، الذي ترشّح لـ12 جائزة أوسكار، ففاز منها بأربعة.
الفيلم مقتبس عن قصة حقيقية، يحكي فيها عن الملك جورج السادس، الذي لا يستطيع مخاطبة شعبه، لأنه يعاني من تلعثم في الكلام يجعله غير قادر على توجيه خطاب للجماهير. الملك جورج السادس يجد نفسه فجأة أمام كرسي الحكم، بعد تخلي أخيه المفاجئ عن دوره بوصفه ملكاً. كان ذلك في عصر شاع فيه الراديو، وبات امتلاك المهارات الخطابية جانباً مهماً من شخصية الملك.
صعوبة وضع الملك جورج السادس، أن صعوده إلى الحكم ترافق مع صعود أدولف هتلر، ملك الخطابات الحماسية والأيديولوجية؛ فقد ألقى هتلر طوال حياته أكثر من خمسة آلاف خطاب، استطاع من خلالها أن يملك عقول ملايين الألمان. وكان يكتب خطاباته بنفسه، ويُصحِّحها أكثر من خمس مرات، كما قال وزير الدعاية النازية جوزيف جوبلز في مذكراته.
بعد رحلة طويلة، وبإجراءات خاصة، يستطيع جورج السادس أن ينطق أخيراً، وأن يوجه خطاباً لشعبه، وذلك بعد أن كاد فقده القدرة على توجيه الخطابات، ينسف حظوظه في أن يصبح ملكاً له شعبية أو يلتف الجمهور حوله.
على خطابات القادة عموماً أن تكون في معظم الوقت دبلوماسية؛ فإذا لم يحل الخطاب مشكلة ما، فعلى الأقل يجب ألا يتحول الخطاب نفسه إلى مشكلة. وبهذا الميزان الدقيق يصوغ كل رئيس في مختلف دول العالم خطاباته. ومع صعوبة تلك المهمة على فرد واحد، اعتاد القادة أن يلجؤوا لأسماء لامعة في مجال الصحافة أو الكتابة السياسية كي يصيغوا لهم خطاباتهم. ويكون أسلوب الخطاب هو الدليل على كاتبه. فغالباً لا يُعلن أي قائد عن اسم كاتب خطاباته، وكذلك لا يصعد كاتبو خطابات الرؤساء أي منصة إعلامية ويعلنون فيها عن قيامهم بتلك المهمة.
غالباً ما تكون تلك الأسماء غير معروفة لكن مع وفاة الرئيس عموماً أو خروجه من السلطة تبدأ الأقوال بالتواتر عمّن كان يصيغ له خطاباته. وهكذا بات معروفاً لدينا عديد من أبرز كُتّاب خطابات الرؤساء العرب. لكن من المهم أيضاً ملاحظة أن الأسلوب ونوعية الأفكار، يكشفان في كثير من الأحيان عن هوية هؤلاء الكُتاّب دون أن يفصحوا عن ذلك.
من الأمثلة التي يكشف فيها الأسلوبُ عن الكاتب، الرئيس اللبناني إميل لحود، الذي كان رجلاً عسكرياً قبل كونه رئيساً مدنياً، لذا فقد كانت خطاباته قليلة، وذات جُمل قصيرة. فكان من الواضح أنه من يكتب خطاباته بنفسه، بضوابطه العسكرية التي تعوّد عليها. كذلك لم يُكثر من المقابلات والأحاديث الارتجالية إلا في فترة الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 2006.
وعلى ذكر لبنان، فإن الرئيس شارل حلو، ولأنه كان ينتمي من الأصل للطبقة المثقفة، وكان يمارس الكتابة قبل الرئاسة، فقد كان هو من يكتب خطبه بنفسه أيضاً. على النقيض نجد الرئيس أمين الجميل الذي استعان بمجموعة من كاتبي الخطابات، مثل غسان تويني وجوزيف أبو خليل وجوزيف الهاشم وإيلي سالم ورفيق نصر الله.
في الدول الغربية غالباً ما يكون وراء كتابة خطابات القادة لجنة كاملة لا فرد واحد. فيمّر الخطاب عبر عدة مستويات من المستشارين السياسيين والقانونين كي يتم التدقيق في كل كلمة. هذه اللجان هى التي تغلفها السرية، بينما اسم كاتب الخطاب الأصلي غالباً ما يكون معروفاً. نظراً لأنه دوره في تلك المنظومة يُعد من أبسط الأدوار، والخطاب الذي يُقدمه ليس إلا مسودة أولية يعتريها عديد من التعديلات، مما يجعل الخطاب النهائي نسخة، قد لا تكون ذات صلة، بالمسودة الأولى.
مثلاً كاتب خطابات الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن هو ديفيد فروم. أما الرئيس كارتر فكان كاتبه هو كريس ماتيوس. بينما كان ووليام سافير من يكتب الخطابات للرئيس ريتشارد نيكسون.
على النقيض من تلك البيروقراطية الشديدة في صياغة الخطابات، كانت توجد نماذج تميل إلى العفوية والارتجال في الخطابات. صحيح أن ذلك كان يوقعها في عديد من المشاكل، إلا أنه كان يجعل الخطابات أشد حماسة، وإلهاباً لمشاعر الجماهير. على رأس هؤلاء يأتي اسم فيدل كاسترو الزعيم الكوبي الشهير الرجل الذي كانت خطاباته –في بعض الأحيان- سلاحه الأهم مقارنة بترسانته العسكرية. وكانت تلك الخطب هى أبرز السبل لإقناع شعبه بأيدلوجيتيه، وتجييشهم لمواجهة الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها.
ومن الرؤساء الذين امتازت خطاباتهم بالارتجال غالب الوقت، هو القائد الليبي معمر القذافي. ولم يُحط القذافي اسم دائم من كاتبي الخطابات. فقد كانت حوله بعض الأسماء المتحمسة لوجوده ولاحتمالية التغيير في بداية الحكم، لكنها انفضّت عنه حين رأت مآلات الأمر في ليبيا، بعد تمكن القذافي من الحكم الفردي.
في منطقة وسطى بين الارتجالية الشديدة والبيروقراطية القاتلة حضر عديد من الرؤساء المصريين؛ فاستعانوا بمختصين لكتابة الخطابات، لكن بالتشاور مع شخص الرئيس في نفس الوقت، وإدخال تعديلات يريدها الرئيس شخصياً ويتواصل فيها مباشرة مع كاتب الخطاب. ومن أشهر خطابات الرؤساء المصريين، كان خطاب أنور السادات في الكنيست الإسرائيلي عام 1977؛ الذي جاء في لحظة مفصلية، وكانت أنظار العالم كلها موجهة إلى كل كلمة يلفظها السادات في ذلك المكان.
بعد ذيوع خطاب السادات في الكنيست، انقسم أصحاب الرأي إلى فريقين؛ رجّح الفريق الأول أن كاتب الخطاب هو الدكتور مراد وهبة وهو أستاذ للأدب الإنجليزي ومعروف بثقافته الواسعة، والأهم من ذلك أنه اشتُهر بأنه يكتب القانون بلغة أدبية، ويحب أن يضع قوانين للأدب، أو كما قيل إنه يؤدب القانون ويقنن الأدب. أما الفريق الثاني فقد أشار إلى أن كاتب الخطاب هو موسى صبري. وتواترت الأخبار أن السادات قد كلّف أكثر من فرد بكاتبة الخطاب، وفي طائرته للقدس اختار من بينها خطاباً.
وبخصوص السادات فقد كان له عدد من كُتّاب الخطابات بجانب مراد وهبة. على رأسهم محمد حسنين هيكل، الصحفي ورئيس تحرير جريدة الأهرام الأسبق، ووزير الإعلام في عهد السادات. وقد كان هيكل كاتباً لخطابات السادات، ومن قبله الرئيس جمال عبد الناصر. وكانت لهيكل مقالات مُطوّلة، تتطابق أطروحات أغلبها مع رؤية السادات في الحكم، منها مبدأ عدم مناطحة الإدارة الأمريكية وعدم الدخول معها في صراع مباشر.
كذلك كان للسادات كاتب آخر، هو أحمد بهاء الدين الذي رغم اشتهاره ككاتب خطابات لامع في عهد عبد الناصر لا السادات، لكن السادات استعان به كذلك. بعده أتى دور كُتّاب خطابات أقل ارتباطا بمجال السياسة، لكنهم كانوا أوسع تأثيراً على الصعيد الشعبي، فظهر موسى صبري وأنيس منصور، وقد كانا كاتبين من الكُتّاب الذين يفضلهم السادات، لذا استعان بهما في كتابة خطابات من نوعية مختلفة عن خطابات هيكل وبهاء الدين.
عند الوصول لمحطة الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، نجد أنه كان محاطاً بأسماء مختلفة تسهم في صياغة خطاباته. منهم سمير رجب رئيس تحرير جريدة الجمهورية الأسبق. كذلك كان مكرم محمد أحمد من أبرز الأسماء التي توافقت رؤاها مع رؤى مبارك، والذي أسهم في صياغة خطابات ورسم سياسات العهد الجديد [عهد مبارك]، بخاصة أن مكرم محمد أحمد كان من أبرز الأسماء التي أيّدت رحلة السادات للكنيست والقدس، رغم أنه يساري في الأصل، لكن تأييده السادات جاوز يساريته.
من الخطابات السياسية التي أخذت نصيباً من الدراسات البحثة خطابات الرئيس الفلسطيني السابق ياسر عرفات، التي اكتسبت أهمية من القضية التي كان يمثلها، القضية الفلسطينية. وكان معروفاً عن عرفات اهتمامه بالخطابات وتنصيفها بحسب الجمهور المُتلقي، وفي نفس الوقت كان متواتراً عنه أنه يقول «ارحموا شعبكم فالكلام من دم»، إدراكاً منه لضرورة عدم التصعيد الخطابي بصورة قد تضر الجمهور أكثر مما تفيده.
لذا كان يُصنف عرفات خطاباته إلى عدم مستويات؛ المستوى الأول هو الخطب التي يوجهها للعالم، كالأمم المتحدة، وكان إعدادها يجري قبل شهور من موعد إلقائها. ومن أبرزها خطابه عام 1974، ورغم أن عديداً من السياسيين شاركوا في صياغة ذلك الخطاب فإن العبارة التي منحته خلوده أتت من شاعر، حين قال عرفات «جئتكم أحمل غصن الزيتون الأخضر بيد، وأحمل البندقية بيد أخرى، فلا تُسقطوا غصن الزيتون من يدي». وتلك العبارة تحمل بصمة واضحة لشاعرية محمود درويش.
المستوى الثاني من خطابات عرفات كانت التي الموجهة للداخل الفلسطيني في الأعياد السنوية والمناسبات الرسمية، وكانت تكتبها لجنة داخلية تهدف إلى جعل الخطاب وردياً قدر الإمكان، فيه وعود بإنجازات قادمة، وإعادة تقديم للماضي بصورة تبعث الأمل في نفوس المُتلقين. لكن المستوى الثالث من خطابات عرفات كان خاصة بالجنازات العامة أو الاحتفالات الصاخبة، وكانت ذات لغة حماسية وقوية، لكن منضبطة بقواعد العقل والمنطق السياسي.
هذا الاهتمام بالخطاب السياسي لدى القادة والرؤساء ليس محض رغبة في الظهور بمظهر الرئيس اللبق أو صاحب الكاريزما، بل إدراك من الإدارة الحاكمة أن للخطاب السياسي أهمية شديدة في العملية السياسية كلها؛ فكما يقول ميشيل فوكو: الخطاب السياسي مرادف للسلطة، وللرغبة في السيطرة.
إذن ليس الخطاب السياسي موضوعاً جانبياً من مواضيع السلطة، بل هو المدار الحاسم والركن الأساسي لأي منظومة حكم، فسلطة القائد تأتي من القدرة على الهيمنة على كل مفاصل خطابه الشخصي، وكيف يصل به إلى ما يريد.
إن الخطاب السياسي هو عصب العملية السياسية، وأساس الفعل، لأن الخطاب واللغة هما منْ يحركان الأفعال السياسية، ويُضفيان على الفعل المُجرد معنى أكبر وأعمق. ويمكن التجرؤ والقول إنه يمكن للخطاب المكتوب جيداً، والمُلقى بإتقان، أن يُنوّم الجماهير مغناطيسياً للتوجه حيث يريد القائد السياسي.